فصل: تفسير الآيات (1- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة الشرح:

.تفسير الآيات (1- 8):

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}
وقرأ الجمهور: {نشرح} بجزم الحاء لدخول الجازم. وقرأ أبو جعفر: بفتحها، وخرجه ابن عطية في كتابه على أنه ألم نشرحن، فأبدل من النون ألفاً، ثم حذفها تخفيفاً، فيكون مثل ما أنشده أبو زيد في نوادره من قول الراجز:
من أي يومي من الموت أفر ** أيوم لم يقدر أم يوم قدر

وقال الشاعر:
أضرب عنك الهموم طارقها ** ضربك بالسيف قونس الفرس

وقال: قراءة مرذولة. وقال الزمخشري: وقد ذكرها عن أبي جعفر المنصور، وقالوا: لعله بين الحاء، وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها، انتهى. ولهذه القراءة تخريج أحسن من هذا كله، وهو أنه لغة لبعض العرب حكاها اللحياني في نوادره، وهي الجزم بلن والنصب بلم عكس المعروف عند الناس. وأنشد قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد، وهو القائم بثأر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما:
قد كان سمك الهدى ينهد قائمه ** حتى أتيح له المختار فانعمدا

في كل ما هم أمضى رأيه قدماً ** ولم يشاور في إقدامه أحدا

بنصب يشاور، وهذا محتمل للتخريجين، وهو أحسن مما تقدم. {ووضعنا عنك وزرك}: كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس، عبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك، كما يقول القائل: رفعت عنك مشقة الزيارة، لمن لم يصدر منه زيارة، على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة منه. وقال أهل اللغة: أنقض الحمل ظهر الناقة، إذا سمعت له صريراً من شدة الحمل، وسمعت نقيض المرجل: أي صريره. قال عباس بن مرداس:
وأنقض ظهري ما تطويت منهم ** وكنت عليهم مشفقاً متحننا

وقال جميل:
وحتى تداعت بالنقيض حباله ** وهمت بوأي زورة أن نحطها

والنقيض: صوت الانقضاض والانفكاك. {ورفعنا لك ذكرك}: هو أن قرنه بذكره تعالى في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب، وفي غير موضع من القرآن، وفي تسميته نبي الله ورسول الله، وذكره في كتب الأولين، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به. وقال حسان:
أغر عليه للنبوة خاتم ** من الله مشهور يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وتعديد هذه النعم عليه صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه تعالى كما أحسن إليك بهذه المراتب، فإنه يحسن إليك بظفرك على أعدائك وينصرك عليهم. وكان الكفار أيضاً يعيرون المؤمنين بالفقر، فذكره هذه النعم وقوى رجاءه بقوله: {فإن مع العسر يسراً}: أي مع الضيق فرجاً. ثم كرر ذلك مبالغة في حصول اليسر. ولما كان اليسر يعتقب العسر من غير تطاول أزمان، جعل كأنه معه، وفي ذلك تبشيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحصول اليسر عاجلاً.
والظاهر أن التكرار للتوكيد، كما قلنا. وقيل: تكرر اليسر باعتبار المحل، فيسر في الدنيا ويسر في الآخرة. وقيل: مع كل عسر يسر، إن من حيث أن العسر معرف بالعهد، واليسر منكر، فالأول غير الثاني. وفي الحديث: «لن يغلب عسر يسرين» وضم سين العسر ويسراً فيهن ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى، وسكنهما الجمهور.
ولما عدد تعالى نعمه السابقة عليه صلى الله عليه وسلم، ووعده بتيسير ما عسره، أمره بأن يدأب في العبادة إذا فرغ من مثلها ولا يفتر. وقال ابن مسعود: {فإذا فرغت} من فرضك، {فانصب} في التنفل عبادة لربك. وقال أيضاً: {فانصب} في قيام الليل. وقال مجاهد: قال {فإذا فرغت} من شغل دنياك، {فانصب} في عبادة ربك. وقال ابن عباس وقتادة: {فإذا فرغت} من الصلاة، {فانصب} في الدعاء. وقال الحسن: {فإذا فرغت} من الجهاد، {فانصب} في العبادة. ويعترض قوله هذا بأن الجهاد فرض بالمدينة. وقرأ الجمهور: {فرغت} بفتح الراء؛ وأبو السمال: بكسرها، وهي لغة. قال الزمخشري: ليست بفصيحة. وقرأ الجمهور: {فانصب} بسكون الباء خفيفة، وقوم: بشدها مفتوحة من الأنصاب. وقرأ آخرون من الإمامية: فانصب بكسر الصاد بمعنى: إذا فرغت من الرسالة فانصب خليفة. قال ابن عطية: وهي قراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم، انتهى. وقرأ الجمهور: {فارغب}، أمر من رغب ثلاثياً: أي اصرف وجه الرغبات إليه لا إلى سواه. وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة: فرغت، أمر من رغب بشد الغين.

.سورة التين:

.تفسير الآيات (1- 8):

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}
أقسم تعالى بما أقسم به أنه خلقه مهيأ لقبول الحق، ثم نقله كما أراد إلى الحالة السافلة. والظاهر أن التين والزيتون هما المشهوران بهذا الاسم، وفي الحديث: «مدح التين وأنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس»، وقال تعالى: {وشجرة تخرج من طور سيناء} قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والنخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي. وقال كعب وعكرمة: أقسم تعالى بمنابتهما، فإن التين ينبت كثيراً بدمشق، والزيتون بإيليا، فأقسم بالأرضين. وقال قتادة: هما جبلان بالشام، على أحدهما دمشق وعلى الآخر بيت المقدس، انتهى. وفي شعر النابغة ذكر التين وشرح بأنه جبل مستطيل. قال النابغة:
صهب الظلال أبين التين عن عرض ** يزجين غيماً قليلاً ماؤه شبها

وقيل: هما مسجدان، واضطربوا في مواضعهما اضطراباً كثيراً ضربنا عن ذلك صفحاً. ولم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام، وهو الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليه. ومعنى {سينين}: ذو الشجر. وقال عكرمة: حسن مبارك. وقرأ الجمهور: {سينين}؛ وابن أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء: بفتح السين، وهي لغة بكر وتميم. قال الزمخشري: ونحو سينون بيرون في جواز الإعراب بالواو والياء، والإقرار على الياء تحريك النون بحركات الإعراب، انتهى. وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله وطلحة والحسن: سيناء بكسر السين والمد؛ وعمر أيضاً وزيد بن علي: بفتحها والمد، وهو لفظ سرياني اختلفت بها لغات العرب. وقال الأخفش: سينين: شجر واحده سينينة.
{وهذا البلد الأمين}: هو مكة، وأمين للمبالغة، أي آمن من فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان، أو من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين، وأمانته حفظه من دخله ولا ما فيه من طير وحيوان، أو من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. ويجوز أن يكون بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل. كما وصف بالآمن في قوله: {حرماً آمناً} بمعنى ذي أمن. ومعنى القسم بهذه الأشياء إبانة شرفها وما ظهر فيها من الخير بسكنى الأنبياء والصالحين. فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم عليه السلام ومولد عيسى ومنشأه، والطور هو المكان الذي نودي عليه موسى عليه السلام، ومكة مكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه ومكان البيت الذي هو هدى للعالمين. {في أحسن تقويم}، قال النخعي ومجاهد وقتادة: حسن صورته وحواسه. وقيل: انتصاب قامته. وقال أبو بكر بن طاهر: عقله وإدراكه زيناه بالتمييز. وقال عكرمة: شبابه وقوته، والأولى العموم في كل ما هو أحسن. والإنسان هنا اسم جنس، وأحسن صفة لمحذوف، أي في تقويم أحسن.
{ثم رددناه أسفل سافلين}، قال عكرمة والضحاك والنخعي: بالهرم وذهول العقل وتغلب الكبر حتى يصير لا يعلم شيئاً.
أما المؤمن فمرفوع عنه القلم والاستثناء على هذا منقطع، وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا، بل في الجنس من يعتريه ذلك. وقال الحسن ومجاهد وأبو العالية وابن زيد وقتادة أيضاً: {أسفل سافلين} في النار على كفره، ثم استثنى استثناء متصلاً. وقرأ الجمهور: سافلين منكراً؛ وعبد الله: السافلين معرفاً بالألف واللام. وأخذ الزمخشري أقوال السلف وحسنها ببلاغته وانتفاء ألفاظه فقال: في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية أعضائه، ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية، إذ رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً، يعني أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة، وهم أصحاب النار. وأسفل من سفل من أهل الدركات. أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل، حيث نكسناه في خلقه، فقوس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد سواده، وتشنن جلده وكان بضاً، وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين، وتغير كل شيء فيه، فمشيه دلف، وصوته خفات، وقوته ضعف، وشهامته خرف،. انتهى، وفيه تكثير. وعلى أن ذلك الرد هو إلى الهرم، فالمعنى: ولكن الصالحين من الهرمي لهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم. وفي الحديث: «إذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له مثل ما كان يعمل في صحته ولم تكتب عليه سيئة»، وفيه أيضاً: «أن المؤمن إذا رد لأرذل العمر كتب له ما كان يعمل في قوته»، وذلك أجر غير ممنون وممنوع مقطوع، أي محسوب يمن به عليهم. والخطاب في {فما يكذبك} للإنسان الكافر، قاله الجمهور، أي ما الذي يكذبك، أي يجعلك مكذباً بالدين تجعل لله أنداداً وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل؟ وقال قتادة والأخفش والفراء: قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: فإذا الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبرة التي توجب النظر فيها صحة ما قلت. {أليس الله بأحكم الحاكمين}: وعيد للكفار وإخبار بعدله تعالى.

.سورة العلق:

.تفسير الآيات (1- 19):

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)}
وقرأ الجمهور: {اقرأ} بهمزة ساكنة؛ والأعشى، عن أبي بكر، عن عاصم: بحذفها، كأنه على قول من يبدل الهمزة بمناسب حركتها فيقول: قرأ يقرا، كسعى يسعى. فلما أمر منه قيل: اقر بحذف الألف، كما تقول: اسع، والظاهر تعلق الباء باقرأ وتكون للاستعانة، ومفعول اقرأ محذوف، أي اقرأ ما يوحى إليك. وقيل: {باسم ربك} هو المفعول وهو المأمور بقراءته، كما تقول: اقرأ الحمد لله. وقيل: المعنى اقرأ في أول كل سورة، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم. وقال الأخفش: الباء بمعنى على، أي اقرأ على اسم الله، كما قالوا في قوله: {وقال اركبوا فيها بسم الله} أي على اسم الله. وقيل: المعنى اقرأ القرآن مبتدئاً باسم ربك. وقال الزمخشري: محل باسم ربك النصب على الحال، أي اقرأ مفتتحاً باسم ربك، قل بسم الله ثم اقرأ، انتهى. وهذا قاله قتادة. المعنى: اقرأ ما أنزل عليك من القرآن مفتتحاً باسم ربك. وقال أبو عبيدة: الباء صلة، والمعنى اذكر ربك. وقال أيضاً: الاسم صلة، والمعنى اقرأ بعون ربك وتوفيقه. وجاء باسم ربك، ولم يأت بلفظ الجلالة لما في لفظ الرب من معنى الذي رباك ونظر في مصلحتك. وجاء الخطاب ليدل على الاختصاص والتأنيس، أي ليس لك رب غيره. ثم جاء بصفة الخالق، وهو المنشئ للعالم لما كانت العرب تسمي الأصنام أرباً. أتى بالصفة التي لا يمكن شركة الأصنام فيها، ولم يذكر متعلق الخلق أولاً، فالمعنى أنه قصد إلى استبداده بالخلق، فاقتصر أو حذف، إذ معناه خلق كل شيء.
ثم ذكر خلق الإنسان، وخصه من بين المخلوقات لكونه هو المنزل إليه، وهو أشرف. قال الزمخشري: أشرف ما على الأرض، وفيه دسيسة أن الملك أشرف. وقال: ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان، كما قال: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان} فقيل: الذي خلق مبهماً، ثم فسره بقوله: خلق تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته، انتهى. والإنسان هنا اسم جنس، والعلق جمع علقة، فلذلك جاء من علق، وإنما ذكر من خلق من علق لأنهم مقرون به، ولم يذكر أصلهم آدم، لأنه ليس متقرراً عند الكفار فيسبق الفرع، وترك أصل الخلقة تقريباً لأفهامهم.
ثم جاء الأمر ثانياً تأنيساً له، كأنه قيل: امض لما أمرت به، وربك ليس مثل هذه الأرباب، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص. والأكرم صفة تدل على المبالغة في الكرم، إذ كرمه يزيد على كل كرم ينعم بالنعم التي لا تحصى، ويحلم على الجاني، ويقبل التوبة، ويتجاوز عن السيئة. وليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال: {الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}، فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على أفضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو.
وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ولا مقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر الخط والقلم لكفى به. ولبعضهم في الأقلام:
ورواقم رقش كمثل أراقم ** قطف الخطا نيالة أقصى المدى

سود القوائم ما يجد مسيرها ** إلا إذا لعبت بها بيض المدى

انتهى. من كلام الزمخشري. ومن غريب ما رأينا تسمية النصارى بهذه الصفة التي هي صفة لله تعالى: الأكرم، والرشيد، وفخر السعداء، وسعيد السعداء، والشيخ الرشيد، فيا لها مخزية على من يدعوهم بها. يجدون عقباها يوم عرض الأقوال والأفعال، ومفعولا علم محذوفان، إذ المقصود إسناد التعليم إلى الله تعالى. وقدر بعضهم {الذي علم} الخط، {بالقلم}: وهي قراءة تعزى لابن الزبير، وهي عندي على سبيل التفسير، لا على أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف. والظاهر أن المعلم كل من كتب بالقلم. وقال الضحاك: إدريس، وقيل: آدم لأنه أول من كتب. والإنسان في قوله: {علم الإنسان}، الظاهر أنه اسم الجنس، عدد عليه اكتساب العلوم بعد الجهل بها. وقيل: الرسول عليه الصلاة والسلام.
{كلا إن الإنسان ليطغى}: نزلت بعد مدة في أبي جهل، ناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة، ونهاه عن الصلاة في المسجد؛ فروي أنه قال: لئن رأيت محمداً يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه. فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليه وانتهره وتوعده، فقال أبو جهل: أيتوعدني محمد! والله ما بالوادي أعظم نادياً مني. ويروى أنه همّ أن يمنعه من الصلاة، فكف عنه. {كلا}: ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه، وإن لم يتقدم ذكره لدلالة الكلام عليه، {إن الإنسان ليطغى}: أي يجاوز الحد، {أن رآه استغنى}: الفاعل ضمير الإنسان، وضمير المفعول عائد عليه أيضاً، ورأى هنا من رؤية القلب، يجوز أن يتحد فيها الضميران متصلين فتقول: رأيتني صديقك، وفقد وعدم بخلاف غيرها، فلا يجوز: زيد ضربه، وهما ضميرا زيد. وقرأ الجمهور: {أن رآه} بألف بعد الهمزة، وهي لام الفعل؛ وقيل: بخلاف عنه بحذف الألف، وهي رواية ابن مجاهد عنه، قال: وهو غلط لا يجوز، وينبغي أن لا يغلطه، بل يتطلب له وجهاً، وقد حذفت الألف في نحو من هذا، قال:
وصاني العجاج فيما وصني

يريد: وصاني، فحذف الألف، وهي لام الفعل، وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم: أصاب الناس جهد ولو تر أهل مكة، وهو حذف لا ينقاس؛ لكن إذا صحت الرواية به وجب قبوله، والقراءات جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها.
{إن إلى ربك الرجعى}: أي الرجوع، مصدر على وزن فعلى، الألف فيه للتأنيث، وفيه وعيد للطاغي المستغني، وتحقير لما هو فيه من حيث ما آله إلى البعث والحساب والجزاء على طغيانه. {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى}: تقدم أنه أبو جهل. قال ابن عطية: ولم يختلف أحد من المفسرين أن الناهي أبو جهل، وأن العبد المصلي وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى. وفي الكشاف، وقال الحسن: هو أمية بن خلف، كان ينهى سلمان عن الصلاة. وقال التبريزي: المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر. قيل: هي أول جماعة أقيمت في الإسلام، كان معه أبو بكر وعليّ وجماعة من السابقين، فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر، فقال له: صل جناح ابن عمك وانصرف مسروراً، وأنشأ أبو طالب يقول:
إن علياً وجعفراً ثقتي ** عند ملم الزمان والكرب

والله لا أخذل النبي ولا ** يخذله من يكون من حسبي

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما ** أخي لأمّي من بينهم وأبي

ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. والخطاب في {أرأيت} الظاهر أنه للرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا {أرأيت} الثاني، والتناسق في الضمائر هو الذي يقتضيه النظم. وقيل: {أرأيت} خطاب للكافر التفت إلى الكافر فقال: أرأيت يا كافر، إن كانت صلاته هدى ودعاء إلى الله وأمراً بالتقوى، أتنهاه مع ذلك؟ والضمير في {إن كان}، وفي {إن كذب} عائد على الناهي. قال الزمخشري: ومعناه أخبرني عن من ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله، وكان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدّين الصحيح، كما نقول نحن.
{ألم يعلم بأن الله يرى}، ويطلع على أحواله من هداة وضلالة، فيجازيه على حسب ذلك، وهذا وعيد، انتهى. وقال ابن عطية: الضمير في {إن كان على الهدى} عائد على المصلي، وقاله الفراء وغيره. قال الفراء: المعنى {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى}، وهو على الهدى وأمر بالتقوى، والناهي مكذب متول عن الذكر، أي فما أعجب هذا ألم يعلم أبو جهل بأن الله تعالى يراه ويعلم فعله؟ فهذا تقرير وتوبيخ، انتهى. وقال: من جعل الضمير في {إن كان} عائداً على المصلي، إنما ضم إلى فعل الصلاة الأمر بالتقوى، لأن أبا جهل كان يشق عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن: الصلاة والدعاء إلى الله تعالى، ولأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يوجد إلا في أمرين: إصلاح نفسه بفعل الصلاة، وإصلاح غيره بالأمر بالتقوى.
وقال ابن عطية: {ألم يعلم بأن الله يرى}: إكمال التوبيخ والوعيد بحسب التوفيقات الثلاثة يصلح مع كل واحد منها، يجاء بها في نسق. ثم جاء بالوعيد الكافي بجميعها اختصاراً واقتضاباً، ومع كل تقرير تكلمة مقدرة تتسع العبارات فيها، وألم يعلم دال عليها مغن.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما متعلق {أرأيت}؟ قلت: {الذي ينهى} مع الجملة الشرطية، وهما في موضع المفعولين. فإن قلت: فأين جواب الشرط؟ قلت: هو محذوف تقديره: {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى}، {ألم يعلم بأن الله يرى}، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني. فإن قلت: فكيف صح أن يكون {ألم يعلم} جواباً للشرط؟ قلت: كما صح في قولك: إن أكرمتك أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ فإن قلت: فما {أرأيت} الثانية وتوسطها بين مفعولي {أرأيت}؟ قلت: هي زائدة مكررة للتوكيد، انتهى.
وقد تكلمنا على أحكام {أرأيت} بمعنى أخبرني في غير موضع منها التي في سورة الأنعام، وأشبعنا الكلام عليها في شرح التسهيل. وما قرره الزمخشري هنا ليس بجار على ما قررناه، فمن ذلك أنه ادعى أن جملة الشرط في موضع المفعول الواحد، والموصول هو الآخر، وعندنا أن المفعول الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية، كقوله: {أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلاً وأكدى أعنده علم الغيب} {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً أطلع الغيب} {أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه} وهو كثير في القرآن، فتخرج هذه الآية على ذلك القانون، ويجعل مفعول {أرأيت} الأولى هو الموصول، وجاء بعده {أرأيت}، وهي تطلب مفعولين، وأرأيت الثانية كذلك؛ فمفعول {أرأيت} الثانية والثالثة محذوف يعود على {الذي ينهى} فيهما، أو على {عبداً} في الثانية، وعلى {الذي ينهى} في الثالثة على الاختلاف السابق في عود الضمير، والجملة الاستفهامية توالى عليها ثلاثة طوالب، فنقول: حذف المفعول الثاني لأرأيت، وهو جملة الاستفهام الدال عليه الاستفهام المتأخر لدلالته عليه. حذف مفعول أرأيت الأخير لدلالة مفعول أرأيت الأولى عليه. وحذفاً معاً لأرأيت الثانية لدلالة الأول على مفعولها الأول، ولدلالة الآخر لأرأيت الثالثة على مفعولها الآخر. وهؤلاء الطوالب ليس طلبها على طريق التنازع، لأن الجمل لا يصح إضمارها، وإنما ذلك من باب الحذف في غير التنازع. وأما تجويز الزمخشري وقوع جملة الاستفهام جواباً للشرط بغير فاء، فلا أعلم أحداً أجازه، بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلباً بوجه مّا، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة شعر.
{كلا}: ردع لأبي جهل ومن في طبقته عن نهي عباد الله عن عبادة الله. {لئن لم ينته} عن ما هو فيه، وعيد شديد {لنسفعاً}: أي لنأخذن، {بالناصية}: وعبر بها عن جميع الشخص، أي سحباً إلى النار لقوله: {فيؤخذ بالنواصي والأقدام} واكتفى بتعريف العهد عن الإضافة، إذ علم أنها ناصية الناهي.
وقرأ الجمهور: بالنون الخفيفة، وكتبت بالألف باعتبار الوقف، إذ الوقف عليها بإبدالها ألفاً، وكثر ذلك حتى صارت روياً، فكتبت ألفاً كقوله:
ومهما تشأ منه فزارة تمنعا ** وقال آخر:

بحسبه الجاهل ما لم يعلما

ومحبوب وهارون، كلاهما عن أبي عمرو: بالنون الشديدة. وقيل: هو مأخوذ من سفعته النار والشمس، إذا غيرت وجهه إلى حال شديد. وقال التبريزي: قيل: أراد لنسودن وجهه من السفعة وهي السواد، وكفت من الوجه لأنها في مقدمة. وقرأ الجمهور: {ناصية خاطئة}، بجر الثلاثة على أن ناصية بدل نكرة من معرفة. قال الزمخشري: لأنها وصفت فاستقبلت بفائدة، انتهى. وليس شرطاً في إبدال النكرة من المعرفة أن توصف عند البصريين خلافاً لمن شرط ذلك من غيرهم، ولا أن يكون من لفظ الأول أيضاً خلافاً لزاعمه. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي: بنصب الثلاثة على الشتم؛ والكسائي في رواية: برفعها، أي هي ناصبة كاذبة خاطئة، وصفها بالكذب والخطأ مجازاً، والحقيقة صاحبها، وذلك أحرى من أن يضاف فيقال: ناصية كاذب خاطئ، لأنها هي المحدث عنها في قوله: {لنسفعاً بالناصية}. {فليدع ناديه}: إشارة إلى قول أبي جهل: وما بالوادي أكبر نادياً مني، والمراد أهل النادي. وقال جرير:
***لهم مجلس صهب السبال أذلة ** أي أهل مجلس، ولذلك وصف بقوله: صهب السبال أذلة، وهو أمر تعجبي، أي لا يقدره الله على ذلك، لو دعا ناديه لأخذته الملائكة عياناً. وقرأ الجمهور: {سندع} بالنون مبنياً للفاعل، وكتبت بغير واو لأنها تسقط في الوصل لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن أبي عبلة: سيدعى مبنياً للمفعول الزبانيه رفع. {كلا}: ردع لأبي جهل، ورد عليه في: {لا تطعه}: أي لا تلتفت إلى نهيه وكلامه. {واسجد}: أمر له بالسجود، والمعنى: دم على صلاتك، وعبّر عن الصلاة بأفضل الأوصاف التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى، {واقترب}: وتقرّب إلى ربك. وثبت في الصحيحين سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إذا السماء انشقت} وفي هذه السورة، وهي من العزائم عند علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكان مالك يسجد فيها في خاصية نفسه.